كان ولا يزال الأثر الابداعي مرآة لما يجول في أعماق النفس ولواعجها، انه امتداد لحسرتها وكابتها وحزنها وأفراحها وغبطتها ...وكل ما يصوغ الكون داخل النفس ويحملها على أن تساير الخارجي أو تتجاوزه في لهفة منقطعة النظير نحو الأفق الذي لا تغيب عنه الحقيقة الا لماما.
فأن يشكل المبدع الخارجي في تقاطعاته المتباينة هو صميم اعادة البناء بعد هدم ونفي ونسف "للنموذج الخادع" واسدال ستار الرؤية الباطنة واسبالها على المعطى الخارجي المتشكل وفق اضطرابات النفس واستقرارها على وتيرة يفرضها التفاعل الايجابي أو السلبي بالواقعي الفاضح والواضح.
من هنا نفهم النفس والروح التي تتغلغل داخل البنية الابداعية من حيث كونها دقائق الحياة وتفاصيلها المنسوجة وفق تواليها، بالتمام، داخل روحانية كاشفة عن رؤيتها للكون والحياة وأقطابها السطحية والأفقية.
هذا الارتسام، النسبي، قد يكون للقارئ، المؤرق، أن يقتفي أثره وهو يتابع عن كثب وبتمعن دلك الاحساس النابع من "تحت ظلال الزيزفون"1 حيث الأحاسيس المرهفة يكشف عنها السرد وتعيشها الشخصيات في وقعة لا تخلو من أن تكون" دعوة سرية" الى اعادة ترشيح العلاقات وتشريحها حتى يكون لها معنى يعلو ليصير مرآة للأنا في تداخلاتها مع الاخر في مستويات متمايزة.
ذلك الطوفان نفسه والتيار عينه كان يتقاذف " استيفن" ويحمله على أنفاس الحب والعاطفة النجلاء قبل أن يخيب الظن في الأخير لما كانت "ماجدولين" في سبات عميق في الجهة المقابلة بعد أن كانت نقطة الانطلاق واحدة والوجهات متباينة لتلتقي في نهاية المطاف لكن بنكهة مأساوية تعكس مأساة الوجود ومعاناة المرء فيه.
نبضات الرومانسية التي ضمنها " ألفونس كار" مؤلفه تكشف عن معادلات لا يستقيم بها ومعها الوجود الانساني " الأفلاطوني " المنشود، خاصة حين تنتفي الوحدة النفسية بين النفوس وتشيد العلائق المادية الزائفة لكنها لا تستمر وتستمر معها أرزاء "استيفن " ونكباته المتتالية أمام عجرفة " ماجدولين" وطيش احساسها، وانشادها لحياة المادة مع " ادوار" المادي المفلس2، ولعل هذا الاختيار في حد ذاته افلاس وانزياح عن الوجود " المعتدل" والصائب الذي كان قد رسمته في البدايات و" استيفن" قبل أن ينكسر كل شيء على أشراف النهايات.
" استيفن" الانسان المخلص للقيم الروحية ضحى بالغالي والنفيس وبالهوية والأهل والجغرافية والدم3... في سبيل الاخلاص لما يؤمن به، غير ان اختياره لم يكن ليتأتى دون دفع ضريبة الغدر والخيانة والمعاناة والتحطم والتشرذم والانزواء ... وغيرها من الأحوال النفسية المضطربة التي لم تشف رغم انفراج الحال المادية ويسرتها. ولعل هذا التمسك بالقيم الروحية المثلى والتشبث بها حد الجنون، كما تمثلها " استيفن"، كانت نابعة من ايمانه بالحب وايفائه بالوعد وامتثاله للبدايات والأصل حيث " مجدولين " " المثالية" تقطع الوعد وتعلن ايمانها المطلق بالروحي والنفسي النفيس دون المادي الرخيص على غير ما صدر عن " ماجدولين الزائفة".
غير أن الايمان بوحدوية الموقف والتماهي في الاحساس والرؤية... تقلب في القلوب وانمحى أثره وانتفت شعبه بعد حالة الاغراء والتشهي التي حلت " بماجدولين" وراودتها عن روح نفسها وانيتها واستبدلت الخير في الأيمان بالأدنى في الشمائل، ومن ثم تنكرت للأصل وباتت تناشد القيم المادية في محراب " ادوارد" في غبطة ونشوة حالمة حاملة معها المنثور من الشفقة والحزن "المبهم" ومن ثم بعدت الشقوة بينها وبين " استيفن" الحالم في سباته والمنشد للقيم الروحية داخل المخدع الأزرق "بيت الاحتفاء بانتصارات القلوب على الجيوب".
التحطم والخيبة والانكسار الذي لزم "استيفن" في احتضاراته لم يكن لينقص من جذوة الايمان بالروح كأصل لا مفر لمناشد ينشد الاستقرار والديمومة ودوام الحال منه، ليتناسى الأخر " الجحيم" بتعبير الوجوديين، سبب التحطم والتردد والاشراف على الموت ومفارقة الوجود، ليسارع ويقاوم ويعض بالنواجد ويصارع حتى اخر رمق في سبيل الخلاص وما يؤمن به.
الحياة بمتاهاتها والتواءاتها لم تسلم منها مواقف " استيفن" و"ماجدولين" بعدما أن شيدت على صرح واحد وداخل فضاء ( حديقة) واحد، لتضحي الأحلام متعددة والنفس صنفان ، مادي يؤمن بالمظهر والشكل الزائف الزائل المفلس ( بإفلاس ادوار) دون التغلغل في العمق والتلذذ بالجمالية المتوارية وراء المكشوف من الأشياء وعلى هذا النبض كانت تسري دفقات " ماجدولين" المرأة القروية المقدسة البدايات المدنسة النهايات. أما الصف الثاني منها بالروحي من الحياة يؤمن ايمانا وثيقا لا تشبع غرائزه بالظاهري من العلائق، يتسلل وينساب دوما الى الباطن حيث الحب والاخلاص والروح في مثاليتها والنفس في أبهى حللها.
ماجدولين، اذن حيكت حياتها على منوال مادي زائف رغم ايمانها " المتدبدب" بقيمة الروحي4 كعمود علاقتها ب" استيفن" (الروح في صورتها المثالية)، رغم ذلك فبعد اسبال الستار عن حقيقة المادة ومصيرها " ادوار" (المخادع المؤمن بالجسد المعادل للمرأة والمصور لكينونتها التي تتغيى الزائف من الحلي والقلائق)، تؤمن بزائفية هذا المعطى في الحياة وانتهائه رغم حالات التشهي التي يعلنها مع انتحار " ادوار" وانتهائه. كل ذلك كان كفيلا ليوقظ القروية المؤمنة بالمادة كأس للسعادة بأن تعود الى نقطة البداية حيث " استيفن" يصارع هموم الفقد والأحزان ، الا أن فلاح الأمر لم يتم لواري الثرى في لحظة ولادته بعد أن دنسته المادة وما بقيت له قيمة في دنيا الشعراء المؤمنين بالقلب الواحد والروح الواحدة داخل الغرفة الزرقاء5 رمز الصفاء والنقاء...
الحياة مسرحية يؤثث فصولها الدرامية تصارع القيم المتعادية، قيم تجعل المرء في غبطة وهناء يسعد بها ومن حوله من دون غشاوة تحجب عنه حلاوة الأيام والأعوام، تجعله قريبا من الاحساس النبيل والسعي الجليل نحو الأفق المشرق بوثوقية نابعة من الباطن من الصميم من الأزلي المقدس، وقيم أخرى " فاجرة" تسعد بالإنسان هنيهة وتغويه لحظة وتغريه علانية وخفية فيحمل على بلاط واهية سرعان ما تنكش وتنقش اغراءاته الزائفة لتجد النفس نفسها أمام حقيقة الروحي في الحياة ومثاليته في تقريب النفوس الى بعضها وضم القلوب الى بعضها ضما.
الهامش
1- تحت ظلال الزيزفون،" ألفونس كار"، ترجمة: مصطفى لطفي المنفلوطي تحت عنوان " ماجدولين"، دار التقوى،س:2013.
2- المرجع نفسه: ص.:2020.
3- ينظر ما تضمنته رسائل " استيفن" الى " ماجدولين"، وما تقطر به من شوق وعشق لا يقل عن صبابة " جميل" ولوعة" روميو" و جنون" سيرانو" في رواية " الشاعر" ( ترجمة مصطفى المنفلوطي).
4- تحت ظلال الزيزفون".ص.: 234.
5- جاءت الغرفة في المؤلفة اشارة الى المصير الذي يمكن أن تقود اليه الوحدة النفسية للأنا في علاقتها بالأخر، هذا لم يتحقق، داخل المؤلف، ليتأسف عليه الطرف الذي فقد البوصلة اليه بفقده لميثاق الشرف و بتر " أدرع السلامة" الموجهة الى ذلك.