الكتابة الأركيولوجية: تقويض الجدران واستنطاق التربة الأولى.
لم تكن التراجيديا الإغريقية ثمرة ولادة جمالية خالصة، إذ ظلت منذ نشأتها محاطة بالغموض والمفارقة. فهي لا تلوح إلينا كبداية فنية نقية، ولا كحالة تلقائية في المجتمع الأثيني، وإنما كحدث تأسيسي مضطرب، مشدود إلى إله مشبوه ومرفوض: ديونيزوس. كما أن صعوبة النفاذ إلى نواتها الأولى تعود إلى تشابك معطيات متباعدة حدَّ التناقض: تقاليد طقسية، تحوّلات سياسية، أشكال فرجوية، وممارسات ثقافية متداخلة، إذ تضافرت جميعها، رغم تنافرها، لتنتج التراجيديا كضرورة نفسية وجودية للفرد الإغريقي، وكتمثيل رمزي يتجاوز الذاتي والحسي ليبلغ تخوم السياسي وشروط الحكم.
في كتابه الأغورا والأوركسترا، يقترح عبد الحليم المسعودي قراءة مغايرة لهذا التأسيس، معتبرًا التراجيديا واقعة سياسية وثقافية قبل أن تكون فنًّا. فالعودة إلى هذا الشكل المسرحي لا تروم استعادة جوهر جمالي مفقود، بل تسعى إلى تفكيك سيرورة تأسيس هشّة، موسومة بالخوف من الأصل.
بهذا المعنى، لا تُفهم التراجيديا إلا ضمن محنة الظهور الأول، حيث تتقاطع الأسطورة مع السياسة، والمقدّس مع الخطر. ولعل هذا التأسيس المرتبك هو ما يجعل من سؤال الولادة مدخلًا نقديًا لا غنى عنه. فالمسرح لم ينبثق من مسار فجئي أو تراكم تاريخي فحسب، وإنما نشأ من ارتباك رمزي عميق لا يزال يشتغل فينا ويؤسّس وعينا إلى اليوم.
وقبل الولوج في أطروحة الأغورا والأوركسترا، تقتضي الضرورة الوقوف عند طبيعة الأداة والمنهج اللذين اعتمدهما المؤلّف في تشييد خطابه. فهو لا يقدّم عبر صفحات كتابه مقاربة تأريخية أو تأويلًا سرديًا خطيًا تقليديًا، متبنيا نمطًا من الكتابة يمكن وصفه بـ"الأركيولوجي"، مستلهمًا حفريات ميشيل فوكو وتقويضات ما بعد البنيوية. وبهذا التوجّه، يمتنع الباحث عن إعادة سرد تاريخ نشأة التراجيديا، ويتجه بدلًا من ذلك إلى مساءلة ما يُعتقد أنه تأسيس راسخ لها كفنّ "نبيل"، مرتبط بالفعل الأخلاقي والتطهير الأرسطي. ومن خلال تفكيك الطبقات التي راكمها العقل المسرحي الغربي، يعمل على كشف التوترات الأصلية التي طمسها النسق الكلاسيكي، وذلك عبر مساءلة أصول المعنى لا ظواهره.
وهو إذ يتبنّى هذا النمط من التشريح، لا يفعل ذلك بقصد إعادة البناء وفق سرد بديل، وإنما بهدف تقويض منطق التجانس الذي فرضه العقل الكلاسيكي، وفتح المجال أمام تشظّي المعاني وتعدّد القراءات. إنها كتابة تُفكّك التصوّرات المؤسِّسة التي رسّخت صورة التراجيديا كأداة للسمو الأخلاقي والتهذيب السياسي، من خلال تعرية التوترات التي طُمست تحت ركام التأويلات التقليدية. وبهذا المنظور، تُفهم التراجيديا لا كمجرّد شكل فنّي جمالي أو طقس جماعي، بل كبنية حاملة للعنف والقلق، تؤسّس لمساحات رمزية تضبط بها الجماعة ذاتها وتعيد إنتاج نظامها.
وهكذا تتحوّل الكتابة الأركيولوجية إلى أداة إبستيمية تقوّض الثوابت الجمالية، وتفضح المكبوت السياسي والرمزي الذي ظل يحرك ولادة الأشكال الفنّية التي تبدو بريئة في ظاهرها. فالمسعودي لا يرى في التراجيديا شكلًا فنيًا مكتملًا أو متعاليًا عن شروطه التاريخية، وإنما يدركها كبنية تأسيسية مشبعة بتوتّرات العنف، وقلق النظام، والخوف من الآخر. فهي، في هذا الأفق، لا تعكس المجتمع الإغريقي فحسب، بل تؤدّي دورًا فاعلًا في تشكيله، نظرًا لأنها ساهمت في إنتاج منطق السلطة، وليس في تمثيله فقط.
من هنا، يمكن الإقرار بأن قراءة النصوص التراجيدية، والولوج إلى أعماقها، لا يمكن أن يتمّا إلا بوصفها منتجًا فنيًّا شديد الارتباط بالبنية السياسية والرمزية التي احتضنتها، وجعلت من ولادتها أمرًا ممكنًا. ومن خلال هذا الارتباط، يتّضح كيف اشتغلت التراجيديا كجهاز للضبط الرمزي والانفعالي داخل المدينة، محوّلة العنف إلى شكل منظَّم، خاضع لمنطق السيطرة الرمزية والمؤسساتية، بقدر ما كانت واجهة جمالية.
يتّصل هذا المنهج بالأفق الفوكوي، حيث لا تُفهم التراجيديات كمجرّد تمثيلات ثقافية، وإنما كأجهزة خطابية فاعلة في إنتاج السلطة. فالمسعودي ينهل من الأدوات المفهومية التي طوّرها فوكو في حفرياته، لا بقصد التأويل، بل بهدف الكشف عن الشروط الرمزية والسياسية التي أنجبت هذا الشكل المسرحي. وهو يشتغل على المعطيات الفرجوية والسياسية في الآن ذاته، باحثًا عن البنيات الخفية التي أسهمت في إنتاج أشكال التمثيل المسرحي داخل المدينة. ومن هذا المنظور، تغدو التراجيديا ممارسة رمزية تُحكم بها الجماعة وتُنظَّم من خلالها الانفعالات الجماعية ضمن إطار جمالي يبدو محايدًا، غير أنه محكوم في العمق بمنطق سياسي صارم يخترق اللغة والصورة والجسد.
في هذا السياق، لم يكن حضور الطقس الديونيزوسي مجرّد لحظة تفريغ ومتعة، وإنما شكّل فضاءً للضبط الرمزي، حيث تُدار الانفعالات الجماعية، ويُعاد إنتاج النظام الرمزي للمدينة. فالمسرح، كما يقرؤه المسعودي، غير ينفصل عن شبكات السلطة، يعمل امتدادًا لها، مساهِمًا في تنظيم الرعب وترويض القلق، عبر تحويل الفوضى إلى طقس جماعي خاضع للتمثيل. وهكذا تتحوّل التراجيديا إلى شكل من أشكال الإدارة الرمزية للمخاوف الجماعية، حيث تُحوَّل المآسي إلى عروض قابلة للتلقي، ويُخضَع الألم لمنطق تمثيلي مُراقَب. وبذلك، يغدو المسرح، ضمن هذه المقاربة، موقعًا للسيادة بقدر ما هو موقع للعرض، ومجالًا تُصاغ فيه أنظمة الجماعة عبر آليات التحكم والسيطرة.
وتكتسب هذه القراءة عمقها من خلال استحضار البعد الديونيزوسي في التراجيديا، باعتباره نقيضًا للبنية الأبُولّونية التي تستبطن منطق النظام والانسجام. فديونيزوس، إله الوباء والفوضى، يستعاد كقوة رمزية مقلقة، أكثر من كونه محمل جمالي أو طقسي، وهذه القوة هي التي تكشف عن الهشاشة البنيوية للمدينة، وعن التهديد الداخلي الذي يُعاد تمثيله بهدف السيطرة عليه. استدعاء ديونيزوس لا يعرّي بنية التراجيديا فقط، وانما يفضح أيضًا دورها في ترويض هذا الاضطراب من خلال طقوس جمالية منمّقة. ومن ثم، لا تُختزل التراجيديا في لحظة تطهير، وإنما تظهر كلحظة إدارة رمزية للخطر، محاطة بمنظومة تمثيلية قابلة للمراقبة والضبط.
لا يندرج مشروع المسعودي ضمن التأويلات التي تبحث عن المعاني، متجاوزا ذلك ليتّخذ شكل ممارسة معرفية تنتمي إلى تقاليد الكتابة الراديكالية. إنه يشتغل على حفريات مزدوجة: في بنية المأساوي من جهة، وفي البنية السياسية والثقافية التي جعلت من التراجيديا نصًّا ممكنًا من جهة أخرى. وبهذا يتحرّك عمله خارج مركزية المعنى، ليعيد مساءلة ما تمّ ترسيخه كمسلّمات في التاريخ الجمالي لهذا الفن. إنّه يكتب ضد السرديات الجاهزة، ويقترح رؤية تفكّك الطابع التهذيبي المنسوب إلى التراجيديا، وتكشف عن وظيفتها الأصلية كجهاز للضبط الرمزي، لا كأداة للسمو الأخلاقي.
ضمن هذا الأفق تتجلّى "الكتابة الأركيولوجية"، كفعل مقاومة معرفية، يسعى إلى زعزعة منطق الوضوح والاكتمال، وإبراز ما هو هشّ ومتشظٍّ وغير محسوم في تاريخ الفن، وفي جغرافيا المدينة، وفي وعي الإنسان. إنها كتابة تقوّض السرديات الكبرى التي قدّمت التراجيديا كفنٍّ للارتقاء الروحي، وتعيد كشفها بوصفها جهازًا سلطويًا لإدارة الرعب المؤسّس. ومن هنا، تتكشّف التراجيديا في أفق "الأغورا والأوركسترا" كممارسة معقّدة، تتقاطع فيها الفنون والسياسة، الأسطورة والسلطة، النص والجسد، المقدّس والمقموع، لتغدو مسرحًا للمعنى العنيف، لا للصفاء الجمالي.
ديونيزوس: محنة الأصل، وصدمة الهوية في مواجهة اللامُسمّى.
يتقدّم ديونيزوس، في قراءة عبد الحليم المسعودي، لا كرمز للمجون أو الانفلات الغريزي، بل كأثر تأسيسي للفوضى التي تكمُن في قلب المدينة–الدولة. إنه لا يتعارض مع النظام من خارجه، بل ينبثق من داخله كتهديد مُقيم، لا يُقهر بالعقل ولا يُستوعب بمنظومات السيادة. فالمسرح الإغريقي، إذ يستدعيه، لا يحتفي به، بل يُخضعه لطقس تمثيلي يُطوّقه. هو الإله الذي يُراقب لا ليُدمج، بل ليُحوَّل إلى قناع يُعيد إنتاج الخطر داخل مشهد مضبوط. بهذا التمثيل، لا تُحتوى الفوضى بل تُعاد برمجتها، لتصبح عنصراً ضروريًا في هندسة الاستقرار السياسي. ديونيزوس لا يُستبعد لأنه غريب، بل لأنه يكشف أن الغرابة مقيمة في أصل المدينة. لذا، فإن وظيفته ليست التعبير، بل التذكير بجذور العنف المسكوت عنه في ميلاد البوليس.
لم يولد المسرح في المدينة الإغريقية كتعبير عن هوية ناجزة؛ بل كان يُقام كأداة لصياغة هذه الهوية داخل حدود رمزية تُحدّد من يُسمح له بالظهور. فالتراجيديا لا تُقدّم الذوات كما هي، إنما تُنتجها عبر لعبة دقيقة من التمثيل والإقصاء، حيث لا تُمنح الذات السياسية صوتًا إلا وفق شروط بعينها. وضمن هذا التصور يُشكّل الحضور الصامت للديونيزوسيين نواة لسلطة رمزية تُفرغ الخطر من طاقته التأسيسية، إذ تُبنى المواطنة هنا لا على مبدأ المساواة، ولكن على قدرة مراقبة الاختلاف دون التماهي معه. فلا يُقدَّم المسرح في هذا السياق كفضاء للتعبير بقدر ما يستحيل إلى ميدان يدرب فيه على تقبّل النظام بوصفه ضرورة رمزية، فكل ظهور سياسي يظلّ مشروطًا بحجب ما يُهدّده، لا بتكريسه أو حضوره الكامل.
بهذا المعنى، لا تكون المواطنة معطى سابقًا على المسرح، بإعتبارها نتيجة لآليات رمزية يُعيد المسرح إنتاجها بوصفه جهاز مراقبة ثقافي–طقسي. وعليه يمكن القول بكون التراجيديا لا تعرض الفوضى كحدث معزول، وذلك بتحويلها إلى مادة تمثيلية خاضعة لقواعد الضبط. وما يُستبعد من دائرة السيادة لا يُنفى، لأن نجاعة السياسي تكون أكبر حين يُعاد تمثيله في قناع يُحيّد تهديده. إن هذا التحييد لا يهدف إلى طمأنينة حقيقية، بقدر ما يؤسس إلى بناء وهم سياسي يُخفي العنف المؤسس للنظام، وفي قلب هذه اللعبة، لا تكون المدينة مجالًا للتوافق، بل لحساب دقيق بين ما يُظهره النظام وما يُخفيه كي يظل قائمًا. فالمسرح هنا لا يُعبّر عن المدينة وإنما يكتب نصّها السياسي الأول، حيث يتجاور القناع والنظام في علاقة توتر منتِجة. والمواطن، بهذا، ليس ذاتًا حرّة، لكونه نتيجة لتقنيات طقسية تُدرّبه على البقاء داخل حدود الخوف المُنظَّم.
إن التوازن الذي تصنعه التراجيديا بين الاضطراب والنظام ليس توازناً أخلاقيًا، بل تقنية لإعادة إنتاج المدينة ككيان هشّ يُقيم على مراقبة المستبعَد. فديونيزوس، بصفته إلهًا–وباء، لا يُقصى بالعنف وإنما يُعاد استحضاره في طقس يُفرّغه من عنفه المؤسس، حيث تُمارَس السياسة عبر طقوس تمثيلية لا تُنتج النظام بقدر ما تُنتج قابليته للاستمرار. وهكذا يُصبح المسرح آلية للضبط الذاتي، لا لتفجير الغرائز وإنما لترويضها، وتحويل التهديد إلى طيف يمكن احتواؤه رمزيًا. فالمواطنة لا تُقاس بالانتماء بقدر ما تقاس بالقدرة على تحمّل رؤية الخطر دون السقوط فيه. إنها أثر لعلاقة غير متكافئة بين ما يُمثَّل وما يُقصى، بين ما يُقال وما يُمنع من القول، ومن هذا التوتر يولد مفهوم الذات السياسية، كأثر تمثيلي لسلطة تُنتج الطمأنينة من داخل الخوف، لا كحقيقة وجودية.
لا يُمكن فهم المسرح الإغريقي خارج منطق السيطرة الرمزية الذي يجعل من الفن أداة سياسية، ومن التراجيديا جهازًا للضبط المؤسساتي. فلا يتعلّق الأمر بمجرد بنية جمالية، ولكن بمنظومة تأسيس تُخضع الظهور لشروط المراقبة. فكل طقس تراجيدي يُعيد إنتاج النظام كقيمة تمثيلية، حيث يُراقب الخطر كي لا يتحوّل إلى كارثة فعلية. وهكذا لا تولد المدينة من انتصار العقل، وإنما من احتواء رمزي للفوضى التي تهدّدها من الداخل، فالاستقرار نفسه لا يكون إلا "وهمًا ضروريًا"، يُخفي الصراع ويُجمّده ضمن قوالب الطقس التراجيدي. والمسرح، حينها، لا يُنتج فنًّا بقدر ما يُنتج الإنسان السياسي بوصفه كائناً مُدرَّبًا على الطاعة داخل التمثيل. وبذلك، تغدو الهوية السياسية هشّة، تُصاغ كل مرة عبر قناع، لا لتثبت، بل لتمنع السقوط في الأصل الديونيزوسي المهمل والمستعاد معًا.
الطقس كأصل سياسي: من الوجود الجماعي إلى التأسيس السياسي
لا يُفهم المسرح الإغريقي كمجرّد تطوّر جمالي أو تعبير رمزي عن التقاليد الجماعية، إنما يُقارب بوصفه امتدادًا للطقوس الطوطمية الأولى التي نشأت لحماية الجماعة من المخاطر المتسربة من الميتافيزيقا وضمان تماسكها الرمزي. ومع انتقال المسرح من المجال الطقسي إلى الحقل الفني، ظل وفيًا لبنيته الطقسية، غير أنّ هذه البنية خضعت لإعادة تشكيل وظيفي يتلاءم مع حاجات المدينة–الدولة. فلم يعد المسرح يستند إلى العلاقة العمودية بين الإنسان والآلهة، بل أعاد تموضعه داخل المجال الأفقي للبوليس، حيث تتقاطع الذوات مع السلطة، ويُعاد تنظيم العلاقات بين المواطن والمؤسسة. هكذا، تحوّل المسرح من وسيط ديني إلى جهاز رمزي يساهم في تنظيم الشأن العام، ويُنتج شكلاً قابلاً للتحكم من التمثيل السياسي. وبذلك لم يعد يعكس الجماعة في وحدتها الغيبية، وإنما يشارك في إنتاجها كجماعة سياسية، من خلال آليات ترسّم حدود الانتماء وتعيد تشكيل التراتب. فالمسرح الإغريقي، في هذا السياق، لا يكتفي باستذكار الطقس، بقدر ما يمارس وظيفة تأسيسية تتعلّق بإعادة إنتاج السياسي وتسيير المجال العمومي داخل المدينة.
إن المسرح، في صيغته التراجيدية، لم يكن أبدًا مجرد مجال للفرجة أو التسلية، إذ مثّل بنيانًا رمزيًا تشكّلت فيه ملامح المدينة–الدولة. لقد احتفظت التراجيديا ببُعدها الطقسي، لا بوصفه تكرارًا لشعائر دينية، بل كقالب شعائري يُعاد داخله تفكيك المأساة الجماعية وصوغها وفق منطق سياسي. ففي لحظة عبورها من الطقس إلى التراجيديا، تحوّلت الجماعة من كيان عضوي موصول بالمقدّس إلى جماعة سياسية يُعاد إنتاجها على خشبة المسرح. ومن خلال مأساة الفرد أمام النظام، وصدام الأهواء بالقانون، مثّلت التراجيديا مسرحًا للصراع المؤسّس، حيث لا يُطرح السؤال حول الذنب أو المصير فحسب، وإنما حول طبيعة العدالة، وشرعية القانون، وحدود السلطة. بهذا المعنى، أسهمت التراجيديا في ترسيخ وعي جماعي جديد، يتجاوز التأسيس على الخضوع للغيب، إلى نوع من الانخراط في المجال العمومي الذي تُدار فيه شؤون المدينة بالحوار والتمثيل. لقد جعلت التراجيديا من المسرح جهازًا رمزيًا لمأسسة السياسي، حيث يتقاطع الطقسي بالمؤسّسي، ويُعاد تشكيل الخوف والفوضى في صورة قانون.
على ضوء ماذكرناه آنفا يمكن القول إن ولادة التراجيديا في أثينا مثلت انعطافة كبرى في تاريخ المدينة، لا بوصفها حدثًا فنيًا معزولًا، بل كتحوّل جذري في أنماط تمثيل الجماعة لنفسها. لم تعد الجماعة تلتئم حول الطقس لتكرار الأسطورة، بل حول العرض التراجيدي الذي يُفكّكها، ويعيد بنائها داخل مشهد تمثيلي يضع الإنسان في صدارة الأسئلة. كان ظهور التراجيديا في القرن الخامس قبل الميلاد لحظة ولادة خطاب جديد يُقوّض مركزية المعتقد الطوطمي، ويستبدلها بفضاء عقلاني يفسح المجال للصراع والتساؤل والمساءلة. في قلب هذا التحول، تراجع المسرح عن كونه امتدادًا للسلطة الكهنوتية فقط، ليوسع من دوائر هويته ويشكلها كفضاء عمومي يُعاد فيه تمثيل السلطة وطرح مشروعية القانون، حيث تتداخل الأسطورة بالتاريخ، والطقس بالسياسة، والمقدّس باليومي. لقد شكّلت التراجيديا لحظة ولادة المدينة–الدولة بوصفها كيانًا مؤسّسًا على التمثيل، لا على الطاعة، وعلى النزاع القابل للقول، لا على الانصياع الصامت. إنها اللحظة التي أصبحت فيها أثينا قادرة على النظر إلى ذاتها من خلال الآخر، والتفكير في وجودها السياسي من خلال مسرح يُحوّل الألم الجمعي إلى شكل قابل للتفاوض والمعنى.
تزامن قيام الديمقراطية في أثينا مع مأسسة المسرح كتقنية رمزية لتنظيم المجال العمومي. وانفتح الباب أما إصلاحات لامست عمق المجتمع الأثيني إذ بدأت بتشكل ملامح نظام سياسي جديد، يقوم على المشاركة والمداولة، لا على النسب والأصل. في هذا السياق، لم يكن المسرح مجرد نتاج ثقافي، بل أداة تأسيسية توازي المؤسسات الديمقراطية الناشئة، إذ أُدرج ضمن جهاز الدولة، واعتُبر جزءًا من شؤون المدينة، تُنظمه وتُموّله وتُشرف عليه السلطات. لقد شكّل المسرح فضاءً مفتوحًا للمواطنين، حيث يُستدعى الجمهور لا لتلقي خطاب السلطة، بل ليشهد تمثيلها، ومساءلتها، من خلال شخصيات وصراعات تُقحم الأسئلة السياسية في قالب جمالي طقسي. إذ لم يكن التراجيدي انعكاسًا للوضع الديمقراطي، بل أحد الشروط الرمزية لتكوينه، حيث أُعيد تعريف العلاقة بين الفرد والجماعة، بين القانون والرغبة، وبين المصير والاختيار. في هذا التلازم بين صعود الديمقراطية ومأسسة المسرح، تبلورت أثينا كمدينة قادرة على التفكير العلني في شروط وجودها، وعلى تحويل الصراع السياسي إلى مادة رمزية تُعرض أمام الجميع وتُدار ضمن حدود القول الممكن.
كشف الأصل الهشّ للبوليس وابتكار السياسي.
لا يسعى عبد الحليم المسعودي في تأويله للتراجيديا الإغريقية إلى تمجيد المدينة أو تبرير بنيتها، بل يعمل على تفكيك سرديتها التأسيسية من الداخل. فالمسرح، في قراءته، يزعزع اليقينيات ويُخل بطمأنينة الجمهور عبر إعادة تمثيل الفوضى التي سبقت نشأة النظام. إذ لا يولد التوازن إلا من تضحية أولى، ولا تستقيم السيادة دون استثناء تم إخراجه كي يُبنى عليه الكل. هكذا، تتحول التراجيديا إلى فضاء رمزي لا يُعيد ترتيب الماضي، وإنما يستدعي لحظة التأسيس العنيفة التي لا تزال تقيم في قلب النظام، كمصدر مهدّد لشرعيته.
من هذا المنظور، يظهر المسرح كأداة فرجوية، لا كجهاز سياسي جمالي يُعيد مساءلة الذاكرة الجمعية عبر الطقس الرمزي، فالعرض التراجيدي، تتعدى هويته إعادة إنتاج الواقع لأن من أوكد أولوياته هي تفكيك شروط إمكانه ويُبرز ما تم نفيه أو إخفاؤه في سبيل بنائه. فالكارثة من هذا المنظار لا تُدان بل تُحتضن، والسيادة لا تُحتفل بها بل تُكشَف عن أصلها القمعي. ففي كل عرض، يعود ديونيزوس إلى الساحة لا كإله للاحتفال، بل كأثر للفوضى المؤسِّسة التي لا يمكن طردها دون زعزعة البنية السياسية برمّتها.
إلى جانب المسرح، يظهر الفيلسوف كفاعل في قلب المدينة، لا ليعارض التراجيديا، بل ليمثّل تحوّلاً من الطقس إلى الخطاب، من الرمز إلى المفهوم، فالمسرح يُدير العنف بالفن، والفلسفة تحاول احتواءه بالمجرد. وفي هذا السياق تحتفظ التراجيديا بأسبقيتها على الفلسفة في مساءلة السلطة؛ ليس من خارجها، بل من داخلها، عبر التمثيل الجمالي للفوضى. لقد كان ظهور الفيلسوف ممكناً فقط حين أمكن عقلنة ديونيزوس وترويضه، بينما حافظ المسرح على توتّره الطقسي، بوصفه أداة لإنتاج الاضطراب، لا احتوائه.
بهذا المعنى، يتقدّم المشروع النقدي للمسعودي خطوة جذرية، حين يقرأ التراجيديا كأداة كشف سياسي لا كنوع أدبي. فالاشتغال على الديونيزوسي لا يهدف إلى استعادة زخارف أسطورية، بقدر ما يذهب في اتجاه تعرية البنية الرمزية التي تُخفي منطق الإقصاء المؤسّس لكل نظام. فالمسرح من هذه الزاوية لا يرسّخ الوحدة، بل يكشف هشاشتها، ولا يُنتج الانسجام، بل يُظهِر أن كل انسجام مشروط بعنف أول تم طرده وتمثيله في آن. التراجيديا، إذن، تتغافل عن دفن الجرح، ساعية تُبقيه مفتوحاً تحت ضوء العرض.
ليست التراجيديا درسًا أخلاقيًا أو تأديبًا جماعيًا، بل مختبرًا رمزيًا تُختبر فيه شروط الشرعية السياسية. وضمن هذا التشكل تقفز عن حل التناقضات بما يفضي إلى إضهارها، لا تؤجج الصراع عوض انهائه ومن ثمة تكابد من أجل تأطيره داخل شكل جمالي يمكن للجماعة التعامل معه. إن العرض التراجيدي لا يبتغي خلق الطمأنينة، بإعتبار هوسه بما يُقلق الذاكرة الجمعية، وبالنظر إلى أنه يُذكّر بأن المدينة لا تقوم على السلام، بل على ترويض العنف تحت طقوس التمثيل. فالمسرح لا ينفي الصراع، بل يُروّضه، ولا يُعيد إنتاج النظام، وإنما يُعرّيه في كل مرة، كمشهد لا يكتمل، وكجسد مهدّد بالانهيار.
بهذا التوتر، تُعيد التراجيديا تعريف المدينة لا ككيان مستقر، بل كفضاء رمزي هشّ لا يستقر إلا بإعادة تمثيل ما يُهدّده. إنها لا تشتغل على ما هو مكتمل، بقدر اشتغالها على أثر منفيّ: ضحية، امرأة، غريب، أو إله، جرى عزله كي يستتب النظام. والمسرح، في هذا السياق، ليس مرآة لواقع خارجي، إنما هو آلة رمزية تُنتج هذا الواقع عبر تكرار الطقس وتحويل الخطر إلى عرض يمكن احتواؤه. ففي كل مرة، يُستدعى الآخر، يُحاصَر رمزيًا، ثم يُنفى من جديد تحت اسم النظام.
هكذا، تخرج قراءة المسعودي للتراجيديا من أفق التأويل الجمالي إلى مساءلة السياسة عبر بنية التمثيل ذاتها. لا وجود للبوليس دون مسرح يُعيد تمثيل ما تحاول الدولة نفيه: الفوضى الأصلية التي بُنيت عليها. التراجيديا لا تُبرّر السيادة بل تُعرّيها، ولا تُطمئن المدينة بل تُدرّبها على العيش في ظل قلق الأصل. وبهذا، يغدو المسرح أداة جذرية لا لفهم الماضي، بل لفهم هشاشة الحاضر، حيث لا معنى لأي نظام دون طقس يُعيد، مرة بعد مرة، تمثيل ما يكمن تحته.
نيتشه في قلب الأغورا.
في الأغورا والأوركسترا، لا يكتفي عبد الحليم المسعودي باستدعاء أطروحة نيتشه حول ميلاد التراجيديا، بل يُخضعها لحفر أركيولوجي–سياسي وذلك في محاولة للتحاور مع استنتاجاتها. فبينما يحتفي نيتشه بالتوتر الخلّاق بين الأبولوني والديونيزوسي بوصفه أصلًا للفن، يعيد المسعودي قراءة هذا التوتر من خارج منطقه الجمالي، كاشفًا عن بنيته الضبطية، متجاوزا بذلك فكرة التراجيديا كولادة جمالية للألم، ليعيد تموضعها ضمن وظيفة رمزية تدير العنف وتُخضعه عبر التمثيل.
يُجسّد ديونيزوس في التصور النيتشوي، طاقة تمرد غريزية تتصاعد داخل الفن كتعبير عن الفوضى الحيوية. لكن المسعودي لا يرى في التراجيديا انبعاثًا حرًّا لهذه الطاقة، بقدر ما ينظر إليها كآلية طقسية تُستدعى لإعادة تطويق الفوضى، فديونيزوس، في هذا الأفق، يحضر كـ"أثر تأسيسي" يُستعاد رمزيًا من أجل تحييده، إذ لم يعد التمثيل التراجيدي انفتاحًا على الغريزة، وإنما إغلاقًا محكَمًا لها ضمن منظومة رمزية تحاكي الخطر دون أن تسمح له بالانفلات.
يشتبك المسعودي مع نيتشه من جهتين: أولًا، ينتقل من التوتر الجمالي إلى البنية السياسية، غير آبه بإظهار المسرح كاحتفاء بالانقسام، متمسكا به كأداة لاحتوائه داخل نظام المدينة. فالتراجيديا هنا لا تُداوي الجرح بالفن، لكنها تُقيّده ضمن سردية تدرّب الجماعة على قبوله. وثانيًا، ينتقل من الميثولوجيا إلى الجهاز؛ فبينما يستبقي نيتشه البنية الأسطورية لتبرير نداء الغريزة، يفككها المسعودي لصالح تأويل أركيولوجي يُظهر ديونيزوس كـ"غريب داخلي"، تُحاكيه المدينة دون أن تعيد دمجه، في حركة تضمن تهميشه المنظّم.
بهذا، تتراجع التراجيديا عن موقعها كمُنتج فني خالص، لتغدو تقنية رمزية تُدار بها الفوضى، لا يُحتفى بها، إذ يتلاشى مفهومها كصراع بين قوى الخصب والانضباط، لتُقرأ كطقس ضبطي يُفرغ الغرائز من طاقتها الحيّة ويحوّلها إلى شكل يمكن تمثيله دون خطر. فالمسرح، في هذا السياق، لا يحرّر بل يُراقب، لا يُبشّر بالخلاص بل يُحاصر التهديد في صورة قابلة للعرض، وعليه تتحول التراجيديا من لحظة مقاومة إلى لحظة تطويع، من احتفال بالتمرد إلى إخضاعه في نظام رمزي محكوم.
هذا التحوّل في القراءة يُقوّض البُعد الرومانسي في أطروحة نيتشه، الذي يُعلّق ولادة الفن على انفجار داخلي تُمثّله التراجيديا. إذ يُجرّد المسعودي المسرح من طابعه المتعالي ويعيده إلى سياق المدينة باعتباره نظامًا لمراقبة الفوضى لا لتفجيرها، أي لتطويقها بطقس يُفرغها من أثرها المادي. وبهذا المعنى لم تعد الغريزة محرّك الفن، بل مادته الخام التي يُعاد تدويرها في شكل مأمون، يتحرّك على الخشبة وفق نظام مسبق لا يترك للتهديد أي هامش للانفلات.
ضمن هذا الأفق، يتقاطع المسعودي مع فوكو أكثر من نيتشه: كما يُنتج الخطاب العقلاني الجنون ليحاصره، يُنتج المسرح ديونيزوس كجنون ممسرح، كاختلال مؤطّر لا يُسمح له بالخروج عن النص. فالمسرح هنا لا يحرّر الذات بقدر ما يُعيد تشكيلها داخل جهاز رمزي يستعرض حدودها ويُعيد غلقها. والتراجيديا، في هذا التكوين، لا تُمكّن الفوضى، إنما تُعيد إنتاجها كتهديد تحت السيطرة، حيث يكون العرض ذاته شكلًا من أشكال السلطة، لا مجرد استجابة جمالية لها.
هكذا تنقلب أطروحة نيتشه رأسًا على عقب: لم يعد المسرح أداة خلاص، بل تقنية احتواء؛ ولم يعد ديونيزوس قوة مخلّصة، بل طيفًا يُستدعى ليُحبس. والتراجيديا لا تُولد من الألم، بل تُدار لتكبح ألمه الحقيقي وتحوّله إلى صورة؛ صورة مضبوطة تُبقي المدينة في حالة يقظة دائمة. ففي قراءة المسعودي، لا تُستعاد التراجيديا لتمجيد الماضي، بل لتفكيكه، وللبرهنة على أن كل نظام سياسي لا يستقر إلا إذا مثّل تهديده، وأخضعه لرقابة رمزية لا تتوقف.