الوظائف التربوية للتاريخ المدرسي وأهمية المقاربة التعددية الثقافية في مجتمع متعدد الثقافات- قراءة في مساهمة فكرية للأستاذ مصطفى حسني ادريسي - محمد أبرقي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

« L’intelligibilité des faits passe par un effort de décentration qui tient compte des cadres de références, des normes et des valeurs du contexte.
C’est en apprenant quelles étaient les fins des gens, leurs valeurs, que leurs actions et leurs conduites deviennent intelligibles » 
Mostafa Hassani Idrissi  . Pensée historienne et apprentissage de l’histoire.éd.L’Harmattan,2005,p.100

» كنتُ أشعر أن لا فارق من أي نوع بين مغربي ومغربي آخر .

لو كنتُ سافرتُ إلى مناطق نائية لكان الوقعُ في وجداني مختلفا «  عبد الله العروي،استبانة،2016،ص60.

تكاد المقاربات التاريخية الجديدة، سواء في مرحلة الإنتاج الأكاديمي للمعرفة التاريخية، أو عند نقلها إلى الفصول الدراسية، تُجمع على ضرورة ربط دراسة التاريخ- باعتباره حقل الاهتمام الفكري بالتغيّر الاجتماعي ضمن تبدلاته وفق لوحة الأزمنة الثلاثية ومُددِها بمقاييسها المتنوعة وتبعا للمشكلة التاريخية موضوع البحث والمعالجة- بالمشكلات المعاصرة التي تعيشها المجتمعات، ومحاولة فهمها، وتفسيرها، واتخاذ مواقف واعية ونقدية منها، وتجاهها .

تأتي المساهمة الفكرية- التي نعتزم تقديمها لتقاسم فائدتها وقيمتها النظرية والمنهجية- للأستاذ والباحث المتخصص في ديداكتيك التاريخ بالجامعة المغربية مصطفى حسني ادريسي، ضمن منجز فكري جماعي ضخم، وبتعددية ثرية مجالات، ومبحثا، ومنهجا، ولغات( تحت عنوان: التاريخ والهوية، الكتابة التاريخية بين الأرشيف والذاكرة وسؤال التعددية، أعمال مهداة إلى جامع بيضا/ منشورات باب الحكمة- ط1- 2023) في سياق تلك المقاربات الجديدة التي تتجاوز مستوى التعامل مع المعرفة التاريخية باعتبارها سردا تاريخيا تقليديا للاستعراض والحفظ والاسترجاع السطحي.

المقالة وردت في الكتاب الأول، ضمن القسم المخصص للتعليم والمجتمع، وكانت بعنوان "أيُّ وظائف تربوية لتدريس التاريخ في مجتمع متعدد الثقافات؟" صفحات419-431، وتنطلق من تصور نظري لموضوع التاريخ في مجتمع متعدد الثقافات، ومقترحات منهجية وديداكتيكية تمنح درس التاريخ وظائفه التربوية داخل فصول بتعددية ثقافية-هوياتية، وتجعل التاريخ المدرسي مناسبة لتعلم الفكر التاريخي كما هو في مساراته المنهجية الكبرى، وعلى قواعد ونهج مهنة المؤرخ، بكيفية معقولة يتقاطع فيها التفكير في  "نحن" والتفكير في "الآخرين" (ص426) والمقالة ترجمة لمداخلة أُلقِيت باللغة الفرنسية في ندوة دولية بإسبانيا في شهر مارس 2005.

تمت معالجة الموضوع من خلال ثلاثة محاور أعقبتها خاتمة ذات طابع توجيهي-علمي وديداكتيكي مفتوح:

  • المجتمع المتعدد الثقافات والتوظيف الهويّاتي للتاريخ
  • درس التاريخ في وسط متعدد الثقافات
  • سؤال الوظائف التربوية الخاصة بتدريس التاريخ في سياق تعدد الثقافات.

بعد التمهيد، يسجّل موضوع المقالة في التعريف بتعبير "مجتمع متعدد الثقافات" خاصية الازدواجية والتناقض، إذ أنه يدل من ناحية على الوحدة والانسجام والتوافق بين مكونات المجتمع، بسمات جامعة مشتركة تسمح بالاندماج والانصهار، ومن ناحية ثانية على ما يفيد التنافر الناتج عن جنوح كل ثقافة مجتمعية إلى تأمين وجودها واستقلالية شخصيتها، فيكون المجتمع المتعدد الثقافات  وكأنه ما بين حالتي الاتصال والانفصال.

يخضع توظيف التاريخ بذلك إلى مستويين، لكل منهما منطلقات، ودوافع، ومبررات، وغايات:

*توظيفٌ لصالح الأغلبية المهيمنة ثقافيا يجعل التاريخ مَعبَرا لضمان الوحدة المنسجمة والولاء للدولة وقوانينها ومؤسساتها، ووسيلة للتربية على نكران الذات وتجنب الانقسامية عبر آليتين: الإغفال والتضخيم، حيث تتراوح كل منها ما بين التوجيه القسري "فن الحذف،...ونسيان الذكريات المقلِقة" (ص421) والتحكم المُهذّب الذي يؤثر على المخيال الجمعي ويصنع قواسمه المشتركة.

للمدرسة في هذا المستوى دور الحفاظ على الاستمرارية و"إعادة الإنتاج" وتعليم "اللهجة الأخلاقية "(ص421) التي تجعل التلاميذ يستشعرون، وفي نفس الوقت، الانتماء للأسرة والأمة .

*توظيف لفائدة الأقليات الثقافية، وإن كانت تحكمه نفس الدوافع عند الأغلبية المهيمنة، فإن التاريخ يكون لغاية حفظ الوجود لجماعة ثقافية محددة، وحماية موقعها، فيكون ذلك التوظيف إما لأغراض دفاعية أو هجومية .

يكون في الحالة الأولى(الدفاعية) متراوحا ما بين تأبيد التقليد وخدمة النخب بالمعنى الثقافي-الاجتماعي، وبين السعي إلى تطوير النظام الاجتماعي القائم، بينما يصير في الحالة الثانية طريقا لتبلور شكل من السلطة الاجتماعية المضادة بهدف التغيير.

أما بخصوص العناصر المؤثرة على التوظيف الهويّاتي للتاريخ داخل الفصول الدراسية، يوردها الأستاذ حسني ادريسي في عنصرين :

 صعوبات التواصل التي تنشأ في فصل بتلاميذ بأصول متعددة ثقافيا وهويّاتيا، ولديهم طموح للبحث عن الذات والتحرر من جراح الذاكرة (عنف سياسي في بلدان اصلية، حروب، بؤس اجتماعي..) يوازيه نوع من التمرد على البيئة المدرسية حيث يتمثلون الفصل الدراسي "صدمة ثقافية" وفضاء للشعور بالقلق الذي يتعمق بسبب تباين اللغة الأم ولغة المدرسة، ولا يمكن لدرس التاريخ التقليدي والنمطي أن يفلح في المساعدة على معالجة تلك الصعوبات، أو في تأمين بيئة التعلمات والإقبال عليها.

أما العنصر الثاني، وفيه نوع من الارتباط بالأول من زاوية التواصل، ويكمن في ما أسماه الباحث ب"تضارب المعارف" والتي تزداد حدتها بفعل اختلاف السّجل اللغوي والمعجمي وتبادلاته أثناء الدرس ما بين التلاميذ وأستاذهم، وبسبب تجاهل أستاذ التاريخ للمعرفة السابقة لدى التلامذة وسياقات اكتسابها المختلفة، وقد يتمثلون المعرفة الجديدة إكراها ثقافيا تفرضه الأغلبية المهيمنة ثقافيا.

يؤكد الباحث في مقالته الفكرية، أن إصلاح البرامج ، وتعلم الفكر التاريخي على ضوء مقاربة تعددية ثقافية (ص425) سيكون لهما الدور التكويني المأمول في درس التاريخ داخل فصلٍ تلامذته بأصول ثقافية-اجتماعية متعددة، ومن شأن الانفتاح على المعرفة التاريخية ومقارباتها الجديدة بمقاييس مجالية وزمنية متنوعة، والإفادة من إنتاجات "التاريخ العالمي" والتحرر من السرد التقليدي والتلقين "ديداكتيك المضمون" دون تفكير أو استدلال، مع اعتبار المسافة تجاه الهويات الثابتة بمقاييس متوازنة ولصالح المسألة الغيرية، وكذا معالجة القضايا التاريخية والاختلافات، التي تميز المجتمعات متعددة الثقافات والهويات، باللجوء إلى تعلّم خطوات المؤرخ، وهو ما يمثل حماية ضد التمركز العرقي(ص428) ويقدم لتلاميذ الفصل أداة فكرية مستدامة وقابلة للتحويل ضمن وضعيات مختلفة(ص428)يتعلمون بفضلها الاختلاف والنسبية، معرفةً وممارسةً، تعاطفا وتسامحا، صداقةً وتقبُّلا قيميا في منأى عن مركزية الذات، وعن إسقاطاتها المعيارية، ويكتسبون فكرا تاريخيا محفزا على قبول تاريخ الآخرين والقدرة على العيش معهم ،وهذا ما يمنح المعرفة التاريخية، بتعبير بول فاين، صفة "الحبكات الإنسانية" بدوافع وغايات إنسانية.

   

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟