فلسفة اللغة عند القدماء - جعفر لعزيز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

مقدمة:
       إن المأثور لدينا في موقف البحث عن أصل اللغة، خلق إشكالا كبيرا منذ البدايات الأولى في فلسفة اللغة مع محاورة كراتيلوس، التي تناولت مسائل رئيسة حول اللغة بوصفها ظاهرة اجتماعية مرتبطة بالفكر والمنطق من جهة، وبالواقع والتاريخ والقصدية من جهة أخرى، ذهبت بالفلاسفة مذاهب عديدة، كان فيها بون شاسع في حسم قضايا مرتبطة باللغة، أسها البحث في أصل اللغة، وهو ما تسعى هذه الورقة إلى مقاربته وإبانة ما زبر به علماء العرب من مواقف وآراء تختلف باختلاف مذاهبهم، بتخصيصنا للفيف من علماء اللغة، الذين كانت لهم مزية السبق في كشف حجب أصل اللغة بتقديم أدلة حول كل موقف الذي يتراوح بين التوفيق(الاصطلاح، والوضع) والتوقيف( الالهام، والطبع).

المحور الأول: الأسس والمفاهيم:

        عمدنا في هذا المحور إلى تحديد مداليل بعض المفاهيم الأساس؛ إذ من خلالها تتضح لنا الرؤية، أخذا بفكرة أن معرفة الشيء فرع عن تصوره، هذا أمر نتخذه لبيان مفهوم التوفيق والتوقيف، بالرجوع إلى المعاجم العربية القديمة، مع بيان التناسب الحاصل بين أصلها اللغوي والاصطلاحي، ونذكرها فيما يأتي:

  • التوفيق: إن أصل هذه المادة اللغوي من (وفق)، ومعناها التوافق والتظاهر والالتحام، وجاء في لسان العرب: "المُوافقة. والتَّوافق: الِاتِّفَاقُ وَالتَّظَاهُرُ، وَفْقُ الشَّيْءِ مَا لاءَمه، وَقَدْ وَافقهُ مُوافقةً ووِفاقاً واتَّفَق مَعَهُ وتَوَافقا. غَيْرُهُ: وَتَقُولُ هَذَا وَفْقُ هَذَا وَوِفاقه وَفِيقُهُ وفُوقه وسِيُّه وعِدْله وَاحِدٌ"[1].

المفهوم من التعريف أن التوفيق هو ما توافق عليه جماعة من الناس، وهذا يتطابق وموقف القائلين بأن اللغة توفيقية، معناها ما اصطلح وتواضع عليه القوم، أو الجماعة.

  • التوقيف: أصلها في اللغة من "وقف"، والوقف – كما جاء في مختار الصحاح "سِوَارٌ مِنْ عَاجٍ"[2]، يقصد به الخلخال من فضة، بمعنى أنه بثق من الفضة ولم يتعداه إلى شيء آخر، الشيء الذي يجعلنا نقول إن التوقيف في اللغة هو ما اختص بشيء دون غيره، وفي ربط المعنى برأي التوقيفين، يتأسس لدينا أنهم يعتبرون اللغة وحيا وإلهاما من الله تعالى، و"التوقيف كالنص"[3]، وبالأوبة إلى أصول الفقه نجد أن النص هنا بمعنى التوقيف هو النص القرآني، في كونه وحي منزل من الله تعالى على النبي صل الله عليه وسلم.

المحور الثاني: حد الوضع:

       يقتضي الحديث عن مسألة الوضع تحديد تعريف له، وبيان الأسس التي ينبغي أن تتوفر في الواضع، والوضع كما عرفه البيضاوي: " عبارة عن تخصيص الشيء بالشيء بحيث إذا أطلق الأول فهم منه الثاني"[4]، فقولنا "قام" وضع أول نفهم معناه إذا أضيف إلى مفردة أخرى على علاقة الاسنادية، نحو "قام زيد" أو "قام الناس"، من خلال المعنى الذي وضع لفعل قام، فهمنا منه تخصيص زيد أو الناس بالقيام.

        وخلق مفهوم الوضع إشكالا كبيرا بين علماء العربية وأصول الفقه؛ إذ تساءلوا عن مسألة مهمة، وهي هل الوضع مرتبط بالمفردات أو المركبات، أو هما معا؟ وهل الوضع من واضع واحد؟ وهل نقصد بالوضع ما وضعه الله تعالى أو ما تواضع عليه البشر؟ وهل الوضع مرتبط بوضع اللفظ فارغا من المعنى، أو وضع المعنى بعدها يوضع اللفظ؟ وهل إذا أخذنا بمسألة أن اللغة الأم هي اللغة التي وضعت ألفاظها توقيفا لا توفيقا، فإننا نجهل مصدر هذه اللغة، فما هي هذه اللغة الأم؟ وإذا افترضنا أنها اللغة العربية، فإننا نجد أن العربية عربيتان، لغة حمير، ولغة اسماعيل عليه السلام؟ وهذه تساؤلات طرحت حول ماهية الوضع.

المحور الثالث: رأي القدماء في أصل اللغة.

       كانت لعلماء العربية آراء في مسألة أصل اللغة، وتعددت فيها آراؤهم، واختلفت أدلتهم، مترجحة بين التوقيف والتوفيق، وذلك ما نبتغي مقاربته والحديث عنه، بتخصيص علم من الأعلام، له قول معلل ومبرر، يمنحنا ميزة التأكد من رأي الصواب، أو الأقرب إلى الصواب في أصل اللغة عند ابن جني.

  • أصل اللغة عند ابن جني:

أشار ابن جني إلى مسألة أصل اللغة في باب: " باب القول على أصل اللغة أإلهام هي أم اصطلاح"، في الجزء الأول من كتاب "الخصائص"، وناقش فيها رأي القائلين بالتوقيف من جهة ورأي الاصطلاح من جهة أخرى، وأكد على أن أهل النظر أقروا بأن أصل اللغة تواضع واصطلاح، لا وحي وتوقيف، وذلك لاعتبار أن المعتزلة يأخذون بقضية التنزيه، وهي أن الله تعالى منزه من أن يواضع أحدا من الناس؛ لأن المواضعة تقتضي المشاهدة والإيماء بالجارحة والله تعالى منزه عن ذلك، وإذا أقر المعتزلة بالتوقيف في أصل اللغة فقد يتناقضون في قولهم بخلق القرآن ، والقول بالتوقيف انكار لمذهبهم في مسألة القول بالقرآن مخلوق، وهي أن ما أنزله الله تعالى من الآيات والسور القرآنية يكون بعد الواقعة، معناه أنها لم تكن ولم تخلق إلا بعد تلك الواقعة، وكونها  كانت قبل الواقعة هو قول بالتوقيف، والقول إنها كانت مع الحدث قول بالاصطلاح والتوفيق، وعليه فالقرآن ينزله الله تعالى حسب ما جد وما وقع، وليس على ما كان ووقع.

وسنرى بأن ابن جني وإن كان معتزليا فنجده يقول بمسألة التوقيف في أصل اللغة وسيأتي تعليل هذا بذكر قول لابن الحاجب لما عرف معنى التوقيف، وذكر لنا ابن جني في حديثه عن أصل اللغة موقف استاذه أبا علي الفارسي الذي يقر بالوحي والتوقيف في أصل اللغة احتجاجا بقوله تعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها"، وفسرها في أن الله سبحانه علم آدم أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات، العربية والفارسية، والرومية والسريانية، والعبرية، " فكان آدم وولده يتكلمون بها ثم إن ولده تفرقوا في الدنيا وعلق كل منهم بلغة من تلك اللغات فغلبت عليه واضمحل عنه ما سواها لبعد عهدهم بها"[5].

كما قدم أدلة تعليلية على القائلين إن أصل اللغة تواضع واصطلاح من جماعة ما، ومعناها أن يجتمع جماعة من الناس على تسمية شيء من الأشياء باسم من الأسماء أو لفظ من الألفاظ، وقال ابنُ جني في هذا: " لنعد فلنقل في الاعتلال لمن قال بأن اللغة لا تكون وحيًا. وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة قالوا: وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدًا فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات فيضعوا لكل واحد "منها" سمة ولفظًا إذا ذكر عرف به ما مسماه، ليمتاز من غيره وليغنى بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين فيكون ذلك أقرب وأخف وأسهل من تكلف إحضاره لبلوغ الغرض في إبانة حاله"[6].

الحاصل من النص أن الاصطلاح والتواضع هو ما أجمع عليه جماعة أو قوم ما، لتسمية الشيء بذلك المسمى، دون التعليل على تسميته بذلك، وقالوا بأن المواضعة تقتضي المشاهدة والإيماء، والله تعالى منزه من أن يواضع واحدا من مخلوقاته، فبطل أن تكون اللغة توقيفا منه سبحانه.

وجاء ابن جني بحل لما قالوا عنه أنه تواضع فقالوا عنه توقيف أن الله تعالى يجوز أن يغير ما تواضع عليه الناس من الأسماء والألفاظ، فيقول لهم ما سميتموه كذا، يمكن أن نغيره بكذا وكذا، فتكون توقيفية من الله عز وجل.

وقدم صاحب الخصائص بعد أن أسفر عن رأي من يقول بالتوقيف والتوفيق، أن أصل اللغة عنده محاكاه لأصوات الطبيعة والمسموعات قائلا :" ذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدوي الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشحيج الحمار ونعيق الغراب، وصهيل الفرس ونزيب الظبي ونحو ذلك. ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد. وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل"[7].

تبين أن ابن جني في رأيه هذا يأخذ بالتوقيف، بحيث إن ابن الحاجب يعتبر التوقيف أنه قائم بوحي الله تعالى إلى خاصة أنبيائه، أو بخلق الأصوات في بعض الأجسام، وهو الرأي الذي يأخذ به ابن جني، أو علم ضروري خلقه في بعضهم حصل به معنى اللفظ.[8]

المحور الرابع: أدلة على أصل اللغة توقيف أو توفيق.

أشار السيوطي في كتابه المزهر إلى الأدلة التي قدمها القائلون بالتوقيف أو الإلهام من جهة، والتوفيق والاصطلاح من جهة أخرى، وأسفر عنها كما يأتي[9]:

واحتج القائلون بالتوقيف بوجوه:

أولها - قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها}.

فالأسماء كلها معلمة من عند الله بالنص وكذا الأفعال والحروف لعدم القائل بالفصل ولأن الأفعال والحروف أيضا أسماء لأن الاسم ما كان علامة والتمييز من تصرف النحاة لا من اللغة ولأن التكلم بالأسماء وحدها متعذر.

وثانيها - أنه سبحانه وتعالى ذم قوما في إطلاقهم أسماء غير توقيفية في قوله تعالى: {إن هي إلا أسماء سميتموها} .

وذلك يقتضي كون البواقي توقيفية.

وثالثها - قوله تعالى {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم}.

والألسنة اللحمانية غير مرادة لعدم اختلافها ولأن بدائع الصنع في غيرها أكثر فالمراد هي اللغات.

ورابعها - وهو عقلي - لو كانت اللغات اصطلاحية لاحتيج في التخاطب بوضعها إلى اصطلاح آخر من لغة أو كتابة ويعود إليه الكلام ويلزم إما الدور أو التسلسل في الأوضاع وهو محال فلا بد من الانتهاء إلى التوقيف.

واحتج القائلون بالاصطلاح بوجهين:

أحدهما - لو كانت اللغات توقيفية لتقدمت واسطة البعثة على التوقيف والتقدم باطل وبيان الملازمة أنها إذا كانت توقيفية فلا بد من واسطة بين الله والبشر وهو النبي لاستحالة خطاب الله تعالى مع كل أحد وبيان بطلان التقدم قوله تعالى {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} وهذا يقتضي تقدم اللغة على البعثة.

والثاني - لو كانت اللغات توقيفية فذلك إما بأن يخلق الله تعالى علما ضروريا في العاقل أنه وضع الألفاظ لكذا أو في غير العاقل أو بألا يخلق علما ضروريا أصلا والأول باطل وإلا لكان العاقل عالما بالله بالضرورة لأنه إذا كان عالما بالضرورة بكون الله وضع كذا لكذا كان علمه بالله ضروريا ولو كان كذلك لبطل التكليف.

خاتمة:

وصفوة الكلام لا يسعنا سوى القول إن الحديث عن موضوع أصل اللغة، هو حديث يطول، وجدير ببحث مستفيض، لما يتضمنه من نقاط مهمة، وإشكالات كثيرة تتير الباحث تعميما في موضوع أصل اللغة، وما يمكن أن نستخلصه مع ابن جني في حديثه عن أصل اللغة، أنه يمكن أن نحسبه ضمنيا في فلسفة اللغة، وإن انعدمت فيه الموضوعية، والشمولية والتجريد، وعليه فكانت دراسته من المآسيس التي أصلت لجزء بسيط من فلسفة اللغة.

[1] -  لسان العرب، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الإفريقي (المتوفى: 711هـ)، دار صادر – بيروت، ط:- 1414 ه، ج10، ص382.

[2] -  مختار الصحاح، زين الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي الرازي (المتوفى: 666هـ)، تـ: يوسف الشيخ محمد، المكتبة العصرية - الدار النموذجية، بيروت – صيدا، ط:1420هـ / 1999م، ج1، ص344.

[3] - المصدر نفسه،  ص344.

[4] - المزهر في علوم اللغة وأنواعها، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ)، المحقق: فؤاد علي منصور، دار الكتب العلمية – بيروت، ط: الأولى، 1418هـ 1998م، ص ص، 34- 40.

[5] - الخصائص، أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (المتوفى: 392هـ)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط4، ج1، ص41.

[6] -  الخصائص، ص45.

[7] - الخصائص، ص ص: 47- 48.

[8] - ينظر المزهر، ص ص:24-29.

[9] - المزهر، ص ص:14-23.

جعفر لعزيز
أستاذ اللغة العربية
طالب باحث في صف الدكتوراه، جامعة محمد الخامس، المدرسة العليا للأساتذة.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟